مفاتيح تدبر القرآن والنجاح في الحياة ( 1 )
صفحة 1 من اصل 1
مفاتيح تدبر القرآن والنجاح في الحياة ( 1 )
مفاتيح تدبر القرآن والنجاح في الحياة ( 1 )
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين وخاتمهم محمد بن عبد الله عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم
أما بعد..
فإن الوسيلة الأولى لإصلاح النفس وتزكية القلب, والوقاية من المشكلات وعلاجها هو العلم, ووسيلته الأولى القراءة والكتاب..
وإن الإحالة على كتاب يقرأ ويفهم ويطبق هي الطريقة العملية للتغير والتطوير, فلو تأملنا حال السلف ابتداء من النبي صلوات ربي وسلامه عليه وانتهاء بالمعاصرين من الصالحين لوجدنا أن القاسم المشترك بينهم هو القيام بالقرآن, وفي صلاة الليل خاصة.
فإن قراءة القرآن في صلاة الليل هي أقوى وسيلة لبقاء التوحيد والإيمان غضاً طرياً ندياً في القلب.
ولكن هناك من يشتكي من عدم فهم القرآن وصعوبته, وهذا غير صحيح, فالقرآن واضح جلي, كتاب علمي تربوي يسره الله على العباد ووضحه.. (لكن هذا من مداخل الشيطان على العبد حتى يحرمه من هذا النعيم و الهداية لعلمه أن الهدى واقع عند التدبر)، أو أنه كان يتأثر بآية, ثم بعد فترة يعود إليها ولكن يفتقد ذلك التأثير!! وذلك لانصرافهم عن القرآن, واشتغالهم بمؤلفات تبحث في طرق النجاح والسعادة في الحياة .. لذلك, ولعلاج هذه المشكلة كان هذا البحث الذي يتحدث عن وسائل عملية تمكن بإذن الله من الانتفاع بالقرآن الكريم، وهي التي كان سلفنا الصالح يتبعها.
ومن أخذ بهذه الوسائل فإنه سيجد بإذن الله - تعالى - أن معاني القرآن تتدفق عليه.
قال سهل بن عبد الله التستري, (لو أعطي العبد بكل حرف من القرآن ألف فهم لم يبلغ نهاية ما أودع الله في آية من كتابه؛ لأنه كلام الله وكلامه صفته, وكما أنه ليس لله نهاية فكذلك لانهاية لفهم كلامه ... وإنما يفهم كل بمقدار ما يفتح الله على قلبه.. )
فإن فهم القرآن وتدبره مواهب من الكريم الوهاب يعطيها لمن صدق في طلبها .. وليس ذلك المتكئ على أريكته المشتغل بشهوات الدنيا ويريد فهم القرآن .. هيهات هيهات ولو تمنى على الله الأماني.
التدبر يعني التفكر والتأمل لآيات القرآن من أجل فهمه، وإدراك معانيه، وحكمه، والمراد منه.
علامات التدبر: -
1) اجتماع القلب والفكر حين القراءة ودليلة التوقف تعجباً وتعظيماً.
2) البكاء من خشية الله.
3) زيادة الخشوع .
4) زيادة الإيمان ودليله التكرار العفوي للآيات.
5) الفرح والاستبشار .
6) القشعريرة خوفاً من الله - تعالى - ثم غلبة الرجاء والسكينة.
7) السجود تعظيماً لله - عز وجل -
فمن وجد واحدة من هذه الصفات أو أكثر فقد وصل إلى حالة التدبر والتفكر، أما من لم يحصل أياً منها فهذا هو المحروم..
قال إبراهيم التيمي: (من أوتي من العلم ما لا يبكيه لخليق ألا يكون أوتي علما؛ لأن الله نعت العلماء فقال: قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً * ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا * ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا (2)
المفتاح الأول / حب القرآن
إن القلب آلة الفهم والعقل، وهو بيد الله وحده - سبحانه وتعالى - قال - تعالى -: أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها.. الآية(3)
وقال واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه (4)
فتذكر وأنت تحاول فهم القرآن أن القلوب بيد الله - تعالى - وأن الله يحول بين المرء وقلبه فليست العبرة بالطريقة والكيفية بل الفتح من الله وحده، وما يحصل لك من التدبر فهو نعمة من الله تستوجب الشكر.
علاقة حب القرآن بالتدبر:
معلوم أن القلب إذا أحب شيئاً تعلق به واشتاق إليه وشغف به وانقطع عمّا سواه، والقلب إذا أحب القرآن تلذذ بقراءته واجتمع على فهمه ووعيه, فيحصل بذلك التدبر المكين والفهم العميق، وبالعكس.
عليه فتحصيل حب القرآن من أنفع الأسباب لحصول أقوى وأعلى مستويات التدبر.
علامات حب القلب للقرآن:
1) الفرح بلقائه.
2) الجلوس معه أو قاتاً طويلة دون ملل.
3) الشوق إليه متى بعد عنه العهد.
4) كثرة مشاورته والثقة بتوجيهاته والرجوع إليه فيما يشكل من أمور الحياة.
5) طاعته، أمراً ونهياً .
فمتى وجدت هذا العلامات فإن الحب موجود، ومتى فقدت فحبه مفقود.
فإنه ينبغي لكل مسلم أن يسأل نفسه هذا السؤال: هل أنا أحب القرآن؟
قال أبو عبيد: " لا يسأل عبد عن نفسه إلا بالقرآن فإن كان يحب القرآن فإنه يحب الله ورسوله "
وسائل تحقيق هذه المحبة:
1) التوكل على الله والاستعانة به.. وسؤاله - سبحانه - أن يرزقك (حب القرآن) ويكرر ذلك ويتحرى مواطن الإجابة ويجتهد في السؤال بتضرع وإلحاح وحرص شديد أن يجاب وأن يعطى.
2) فعل الأسباب: وخير الأسباب في هذا المقام (العلم) ووسيلته: القراءة .. أي القراءة عن عظمة القرآن مما ورد في القرآن والسنة, وأقول السلف في تعظيمهم وحبهم للقرآن.
المفتاح الثاني: أهداف قراءة القرآن
معظم الناس لا يستحضر هدف واضح لقراءة القرآن.. لذلك فهو لا يستشعر أهميته، فترى مثلاً حافظاً للقرآن غير عامل ولا متخلق به.
وقراءة القرآن يجتمع فيها مقاصد خمسة ونيات كلها عظيمة، وأهداف قراءة القرآن مجموعة في قولك (ثمّ شعّ):
(الثاء): ثواب، (الميم): مناجاة.. (الميم): مسأله، (الشين): شفاء، (العين): علم.. (العين): عمل.
فمتى قرأ المسلم القرآن مستحضراً المقاصد الخمسة معاً كان انتفاعه بالقرآن أعظم وأجره أكبر.
ومن قرأه يريد العلم رزقه الله العلم، ومن قرأه يريد الثواب فقط أعطي الثواب، قال ابن تيمية: (من تدبر القرآن طالباً الهدى منه تبين له طريق الحق)
والكلام في هذا المفتاح كثير لا يتسع المجال لذكره (5)
المفتاح الثالث / القيام بالقرآن:
إن هذا المفتاح من أهم المفاتيح لتدبر القرآن وأعظمها شأناً وقد ورد عدد من النصوص تؤكد أهميته، قال – تعالى-: ومن الليل فتهجد به نافلة... الآية (6)
وقال: يا أيها المزمل * قم الليل إلا قليلاً.... الآيات (7)
وعن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: " إذا قام صاحب القرآن فقرأه بالليل والنهار ذكره، وإن لم يقم به نسيه " (
فهذا هو بيت القصيد في تدبر القرآن والانتفاع به، فمن كان يقوم به آناء الليل والنهار.. تجد أن إجابته حاضره وسريعة، وتجده وقـّافاً عند كتاب الله، وبالعكس.
المفتاح الرابع / أن تكون القراءة في ليل:
إن الليل وخاصة وقت السَّحَر من أفضل الأوقات للتذكر، فالذاكرة تكون في أعلى مستوى بسبب الهدوء والصفاء، وبسبب بركة الوقت حيث النزول الإلهي.
ومما يدل على أن القراءة في ليل أحد مفاتيح التدبر قوله - تعالى -: ومن الليل فتهجد به نافلة لك.. الآية (9)
وقوله: إن ناشئة الليل هي أشد وطئاً وأقوم قيلا(10)
قال الشيخ عطية سالم يحكي عن شيخه الشنقيطي - رحمه الله -: " لا يثبت القرآن في الصدر، ولا يسهل حفظه، وييسر فهمه إلا القيام به في جوف الليل "، وقال السري: (رأيت الفوائد ترد في ظلام الليل)
وقال النووي: (ينبغي للمرء أن يكون اعتناؤه بقراءة القرآن في الليل أكثر، وفي صلاة الليل أكثر، والأحاديث والآثار في هذا كثيرة.... إلى آخر كلامه - رحمه الله -)
المفتاح الخامس / التكرار الأسبوعي للقرآن أو بعضه:
أهمية ذلك: كلما تقاربت أوقات القراءة وكلما كثر التكرار كان أقوى في رسوخ معاني القرآن الكريم، ومن أجل ذلك كان السلف يواظبون على قراءة القرآن ويحرصون أكثر على كثر تلاوته وتكرارها.
وإن عادات النجاح ليست كثيرة بل هو واحد وهي: المحافظة على قراءة حزبك من القرآن، بل هي عبادة وليست عادة.
كيفية تحزيب القرآن ومدة الختم: قراءة القرآن مثل العلاج لابد أن يكون بمقدار معين لا يزيد ولا ينقص حتى يحدث أثره. مثل المضاد الحيوي.. إن طالت المدة ضعف أثره, وإن تقارب أكثر من المناسب أضر بالبدن.
فكذلك قراءة القرآن.
كيفية تطبيق هذا المفتاح: بتطبيق قاعدة (أدومه وإن قل).. وبالتدرج في القراءة والتحزيب.
المفتاح السادس / أن تكون القراءة حفظاً:
أهمية هذا: إن مثل الحافظ للقرآن وغير الحافظ، كاثنين مسافرين الأول زاده التمر، والآخر زاده الدقيق، فالأول متى ماجاع اخذ التمر وأكل، والثاني لابد له من النزول والعجن وإيقاد النار والخبز والانتظار.
والعلم مثل الدواء لا يؤثر حتى يدخل الجوف ويختلط بالدم، وإن لم يكن كذلك فإن أثره مؤقت.
عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب)(11)
وقال ابن تيمية " أنا جنتي وبستاني في صدري أنّى رحت فهي معي " وهو يريد بذلك القرآن والسنة.
وقال سهل بن عبد الله لأحد طلابه: أتحفظ القرآن؟ قال: لا. قال: واغوثاه لمؤمن لا يحفظ القرآن! فبم يترنم! فبم يتنعم! فبم يناجي ربه! )
وهذا المقصود من كون الحفظ أحد مفاتيح التدبر؛ لأنه متى كانت الآية محفوظة فتكون حاضرة.
المفتاح السابع / تكرار الآيـات:
إن الهدف من التكرار هو التوقف لاستحضار المعاني، وكلما كثر التكرار كلما زادت المعاني التي تفهم من النص، والتكرار أيضاً قد يحصل لا إرادياً تعظيماً أو إعجاباً بما قرأ، وهذا مشاهد في واقع الناس.
فالتكرار نتيجة وثمرة الفهم والتدبر وهو أيضاً وسيلة إليه حينما لا يوجد، قال ابن مسعود - رضي الله عنه - (لا تهذوه هذ الشعر ولا تنثروه نثر الدقل، قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة)
وهكذا كان حال السلف - رحمهم الله - ورضي عنهم.
المفتاح الثامن / ربط الألفاظ بالمعاني:
مفهومه: أي حفظ المعاني، وهو أيضاً ربط الآية بالواقع؛ أي تنزيل الآية على المواقف والأحوال اليومية التي تمر بالشخص، هو التمثيل بالقرآن في كل حدث يحصل في اليوم والليلة، بحيث يبقى القرآن حياً في القلب تؤخذ منه الإجابات والتفسيرات للحياة.
أنواعه: عفوي، قصدي
العفوي / إلهامات وفتوحات يفتحها الله على من يشاء من عباده
القصدي / هو أن تقوم بالربط ثم التكرار حتى يرسخ ويثبت
والتكرار الذي يحقق الربط نوعان: تكرار آني، تكرار أسبوعي
الآني / تكرار الآيات أثناء قراءتها
الأسبوعي / تكرارها أسبوعيا
كيفية الربط / إن تكرر اللفظ مع استحضار معنى جديد في كل مرة، حتى تمر على كل المعاني التي يمكن أن تتذكرها من النص أو اللفظ.
المفتاح التاسع / الترتيل:
يعني الترسل والتمهل.
ومن ذلك مراعاة المقاطع والمبادئ وتمام المعنى، بحيث يكون القارئ متفكراً فيما يقرأ.
قال الحسن البصري: (يا ابن آدم كيف يرق قلبك وإنما همتك آخر السورة! )
قال ابن مفلح - رحمه الله -: (أقل الترتيل ترك العجلة في القرآن عن الإبانة، وأكمله أن يرتل القراءة ويتوقف فيها)
والصحيح أن من أسرع في القراءة فقد اقتصر على مقصد واحد من مقاصد القراءة وهو: الثواب.
ومن رتل وتأمل فقد حقق المقاصد كلها وكمل انتفاعه بالقرآن واتبع هدي النبي صلوات ربي وسلامه عليه وصحابته الكرام - رضي الله عنهم -.
المفتاح العاشـ ـر / الجهر بالقراءة:
عن أبي هريرة قال: " ليس منّا من لم يتغن بالقرآن يجهر به "
وعنه أيضاً قال أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت أن يجهر بالقرآن )(12)
قال ابن عباس لرجل ذكر أنه يسرع القراءة (إن كنت فاعلاً فاقرأ قراءة تسمعها أذنك ويعيها قلبك)
وعن أبي ليلى قال: (إذا قرأت فاسمع أذنيك فإن قلبك عدل بين اللسان والأذن)
فإن الجهر بما يدور في القلب أعون على التركيز والانتباه ولذلك تجد الإنسان يلجأ إليه قسراً عندما تتعقد الأمور ويصعب التفكير.
ختاماً /
إن من يواظب على قراءة القرآن كما تم بيانه ووصفه من حال السلف فإن هذا سيؤدي إلى حياة قلبه وقوة ذاكرته وصحة نفسه وعلو همته وقوة إرادته، وهذه هي مرتكزات النجاح الحقيقية، ذلكم النجاح الشامل المتكامل الثابت في حال الشدة كما هو في حال الرخاء.
إن من يطبق هذه المفاتيح العشرة فسيرى بأم قلبه نور القرآن... ويكون ممن قال الله فيهم: إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكيا (13)
نسأل الله أن نكون من أهل القرآن وأن يجعله ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا وذهاب همومنا.
إنه القادر على ذلك ... لمن خلصت نيته.
والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
-------------------
الهوامش:
1- بتصرف شديــد
2- الإسراء 107-109
3- الحج 46
4- الأنفال 24
5- من كلامي.. للاستزاده الرجوع للكتاب.
6- الإسراء 79
7- المزمل 1-5
8- صحيح مسلم
9- الإسراء 79
10-المزمل 6
11-سنن الترمذي
12-صحيح البخاري ومسلم
13-مريم 58
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين وخاتمهم محمد بن عبد الله عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم
أما بعد..
فإن الوسيلة الأولى لإصلاح النفس وتزكية القلب, والوقاية من المشكلات وعلاجها هو العلم, ووسيلته الأولى القراءة والكتاب..
وإن الإحالة على كتاب يقرأ ويفهم ويطبق هي الطريقة العملية للتغير والتطوير, فلو تأملنا حال السلف ابتداء من النبي صلوات ربي وسلامه عليه وانتهاء بالمعاصرين من الصالحين لوجدنا أن القاسم المشترك بينهم هو القيام بالقرآن, وفي صلاة الليل خاصة.
فإن قراءة القرآن في صلاة الليل هي أقوى وسيلة لبقاء التوحيد والإيمان غضاً طرياً ندياً في القلب.
ولكن هناك من يشتكي من عدم فهم القرآن وصعوبته, وهذا غير صحيح, فالقرآن واضح جلي, كتاب علمي تربوي يسره الله على العباد ووضحه.. (لكن هذا من مداخل الشيطان على العبد حتى يحرمه من هذا النعيم و الهداية لعلمه أن الهدى واقع عند التدبر)، أو أنه كان يتأثر بآية, ثم بعد فترة يعود إليها ولكن يفتقد ذلك التأثير!! وذلك لانصرافهم عن القرآن, واشتغالهم بمؤلفات تبحث في طرق النجاح والسعادة في الحياة .. لذلك, ولعلاج هذه المشكلة كان هذا البحث الذي يتحدث عن وسائل عملية تمكن بإذن الله من الانتفاع بالقرآن الكريم، وهي التي كان سلفنا الصالح يتبعها.
ومن أخذ بهذه الوسائل فإنه سيجد بإذن الله - تعالى - أن معاني القرآن تتدفق عليه.
قال سهل بن عبد الله التستري, (لو أعطي العبد بكل حرف من القرآن ألف فهم لم يبلغ نهاية ما أودع الله في آية من كتابه؛ لأنه كلام الله وكلامه صفته, وكما أنه ليس لله نهاية فكذلك لانهاية لفهم كلامه ... وإنما يفهم كل بمقدار ما يفتح الله على قلبه.. )
فإن فهم القرآن وتدبره مواهب من الكريم الوهاب يعطيها لمن صدق في طلبها .. وليس ذلك المتكئ على أريكته المشتغل بشهوات الدنيا ويريد فهم القرآن .. هيهات هيهات ولو تمنى على الله الأماني.
التدبر يعني التفكر والتأمل لآيات القرآن من أجل فهمه، وإدراك معانيه، وحكمه، والمراد منه.
علامات التدبر: -
1) اجتماع القلب والفكر حين القراءة ودليلة التوقف تعجباً وتعظيماً.
2) البكاء من خشية الله.
3) زيادة الخشوع .
4) زيادة الإيمان ودليله التكرار العفوي للآيات.
5) الفرح والاستبشار .
6) القشعريرة خوفاً من الله - تعالى - ثم غلبة الرجاء والسكينة.
7) السجود تعظيماً لله - عز وجل -
فمن وجد واحدة من هذه الصفات أو أكثر فقد وصل إلى حالة التدبر والتفكر، أما من لم يحصل أياً منها فهذا هو المحروم..
قال إبراهيم التيمي: (من أوتي من العلم ما لا يبكيه لخليق ألا يكون أوتي علما؛ لأن الله نعت العلماء فقال: قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً * ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا * ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا (2)
المفتاح الأول / حب القرآن
إن القلب آلة الفهم والعقل، وهو بيد الله وحده - سبحانه وتعالى - قال - تعالى -: أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها.. الآية(3)
وقال واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه (4)
فتذكر وأنت تحاول فهم القرآن أن القلوب بيد الله - تعالى - وأن الله يحول بين المرء وقلبه فليست العبرة بالطريقة والكيفية بل الفتح من الله وحده، وما يحصل لك من التدبر فهو نعمة من الله تستوجب الشكر.
علاقة حب القرآن بالتدبر:
معلوم أن القلب إذا أحب شيئاً تعلق به واشتاق إليه وشغف به وانقطع عمّا سواه، والقلب إذا أحب القرآن تلذذ بقراءته واجتمع على فهمه ووعيه, فيحصل بذلك التدبر المكين والفهم العميق، وبالعكس.
عليه فتحصيل حب القرآن من أنفع الأسباب لحصول أقوى وأعلى مستويات التدبر.
علامات حب القلب للقرآن:
1) الفرح بلقائه.
2) الجلوس معه أو قاتاً طويلة دون ملل.
3) الشوق إليه متى بعد عنه العهد.
4) كثرة مشاورته والثقة بتوجيهاته والرجوع إليه فيما يشكل من أمور الحياة.
5) طاعته، أمراً ونهياً .
فمتى وجدت هذا العلامات فإن الحب موجود، ومتى فقدت فحبه مفقود.
فإنه ينبغي لكل مسلم أن يسأل نفسه هذا السؤال: هل أنا أحب القرآن؟
قال أبو عبيد: " لا يسأل عبد عن نفسه إلا بالقرآن فإن كان يحب القرآن فإنه يحب الله ورسوله "
وسائل تحقيق هذه المحبة:
1) التوكل على الله والاستعانة به.. وسؤاله - سبحانه - أن يرزقك (حب القرآن) ويكرر ذلك ويتحرى مواطن الإجابة ويجتهد في السؤال بتضرع وإلحاح وحرص شديد أن يجاب وأن يعطى.
2) فعل الأسباب: وخير الأسباب في هذا المقام (العلم) ووسيلته: القراءة .. أي القراءة عن عظمة القرآن مما ورد في القرآن والسنة, وأقول السلف في تعظيمهم وحبهم للقرآن.
المفتاح الثاني: أهداف قراءة القرآن
معظم الناس لا يستحضر هدف واضح لقراءة القرآن.. لذلك فهو لا يستشعر أهميته، فترى مثلاً حافظاً للقرآن غير عامل ولا متخلق به.
وقراءة القرآن يجتمع فيها مقاصد خمسة ونيات كلها عظيمة، وأهداف قراءة القرآن مجموعة في قولك (ثمّ شعّ):
(الثاء): ثواب، (الميم): مناجاة.. (الميم): مسأله، (الشين): شفاء، (العين): علم.. (العين): عمل.
فمتى قرأ المسلم القرآن مستحضراً المقاصد الخمسة معاً كان انتفاعه بالقرآن أعظم وأجره أكبر.
ومن قرأه يريد العلم رزقه الله العلم، ومن قرأه يريد الثواب فقط أعطي الثواب، قال ابن تيمية: (من تدبر القرآن طالباً الهدى منه تبين له طريق الحق)
والكلام في هذا المفتاح كثير لا يتسع المجال لذكره (5)
المفتاح الثالث / القيام بالقرآن:
إن هذا المفتاح من أهم المفاتيح لتدبر القرآن وأعظمها شأناً وقد ورد عدد من النصوص تؤكد أهميته، قال – تعالى-: ومن الليل فتهجد به نافلة... الآية (6)
وقال: يا أيها المزمل * قم الليل إلا قليلاً.... الآيات (7)
وعن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: " إذا قام صاحب القرآن فقرأه بالليل والنهار ذكره، وإن لم يقم به نسيه " (
فهذا هو بيت القصيد في تدبر القرآن والانتفاع به، فمن كان يقوم به آناء الليل والنهار.. تجد أن إجابته حاضره وسريعة، وتجده وقـّافاً عند كتاب الله، وبالعكس.
المفتاح الرابع / أن تكون القراءة في ليل:
إن الليل وخاصة وقت السَّحَر من أفضل الأوقات للتذكر، فالذاكرة تكون في أعلى مستوى بسبب الهدوء والصفاء، وبسبب بركة الوقت حيث النزول الإلهي.
ومما يدل على أن القراءة في ليل أحد مفاتيح التدبر قوله - تعالى -: ومن الليل فتهجد به نافلة لك.. الآية (9)
وقوله: إن ناشئة الليل هي أشد وطئاً وأقوم قيلا(10)
قال الشيخ عطية سالم يحكي عن شيخه الشنقيطي - رحمه الله -: " لا يثبت القرآن في الصدر، ولا يسهل حفظه، وييسر فهمه إلا القيام به في جوف الليل "، وقال السري: (رأيت الفوائد ترد في ظلام الليل)
وقال النووي: (ينبغي للمرء أن يكون اعتناؤه بقراءة القرآن في الليل أكثر، وفي صلاة الليل أكثر، والأحاديث والآثار في هذا كثيرة.... إلى آخر كلامه - رحمه الله -)
المفتاح الخامس / التكرار الأسبوعي للقرآن أو بعضه:
أهمية ذلك: كلما تقاربت أوقات القراءة وكلما كثر التكرار كان أقوى في رسوخ معاني القرآن الكريم، ومن أجل ذلك كان السلف يواظبون على قراءة القرآن ويحرصون أكثر على كثر تلاوته وتكرارها.
وإن عادات النجاح ليست كثيرة بل هو واحد وهي: المحافظة على قراءة حزبك من القرآن، بل هي عبادة وليست عادة.
كيفية تحزيب القرآن ومدة الختم: قراءة القرآن مثل العلاج لابد أن يكون بمقدار معين لا يزيد ولا ينقص حتى يحدث أثره. مثل المضاد الحيوي.. إن طالت المدة ضعف أثره, وإن تقارب أكثر من المناسب أضر بالبدن.
فكذلك قراءة القرآن.
كيفية تطبيق هذا المفتاح: بتطبيق قاعدة (أدومه وإن قل).. وبالتدرج في القراءة والتحزيب.
المفتاح السادس / أن تكون القراءة حفظاً:
أهمية هذا: إن مثل الحافظ للقرآن وغير الحافظ، كاثنين مسافرين الأول زاده التمر، والآخر زاده الدقيق، فالأول متى ماجاع اخذ التمر وأكل، والثاني لابد له من النزول والعجن وإيقاد النار والخبز والانتظار.
والعلم مثل الدواء لا يؤثر حتى يدخل الجوف ويختلط بالدم، وإن لم يكن كذلك فإن أثره مؤقت.
عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب)(11)
وقال ابن تيمية " أنا جنتي وبستاني في صدري أنّى رحت فهي معي " وهو يريد بذلك القرآن والسنة.
وقال سهل بن عبد الله لأحد طلابه: أتحفظ القرآن؟ قال: لا. قال: واغوثاه لمؤمن لا يحفظ القرآن! فبم يترنم! فبم يتنعم! فبم يناجي ربه! )
وهذا المقصود من كون الحفظ أحد مفاتيح التدبر؛ لأنه متى كانت الآية محفوظة فتكون حاضرة.
المفتاح السابع / تكرار الآيـات:
إن الهدف من التكرار هو التوقف لاستحضار المعاني، وكلما كثر التكرار كلما زادت المعاني التي تفهم من النص، والتكرار أيضاً قد يحصل لا إرادياً تعظيماً أو إعجاباً بما قرأ، وهذا مشاهد في واقع الناس.
فالتكرار نتيجة وثمرة الفهم والتدبر وهو أيضاً وسيلة إليه حينما لا يوجد، قال ابن مسعود - رضي الله عنه - (لا تهذوه هذ الشعر ولا تنثروه نثر الدقل، قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة)
وهكذا كان حال السلف - رحمهم الله - ورضي عنهم.
المفتاح الثامن / ربط الألفاظ بالمعاني:
مفهومه: أي حفظ المعاني، وهو أيضاً ربط الآية بالواقع؛ أي تنزيل الآية على المواقف والأحوال اليومية التي تمر بالشخص، هو التمثيل بالقرآن في كل حدث يحصل في اليوم والليلة، بحيث يبقى القرآن حياً في القلب تؤخذ منه الإجابات والتفسيرات للحياة.
أنواعه: عفوي، قصدي
العفوي / إلهامات وفتوحات يفتحها الله على من يشاء من عباده
القصدي / هو أن تقوم بالربط ثم التكرار حتى يرسخ ويثبت
والتكرار الذي يحقق الربط نوعان: تكرار آني، تكرار أسبوعي
الآني / تكرار الآيات أثناء قراءتها
الأسبوعي / تكرارها أسبوعيا
كيفية الربط / إن تكرر اللفظ مع استحضار معنى جديد في كل مرة، حتى تمر على كل المعاني التي يمكن أن تتذكرها من النص أو اللفظ.
المفتاح التاسع / الترتيل:
يعني الترسل والتمهل.
ومن ذلك مراعاة المقاطع والمبادئ وتمام المعنى، بحيث يكون القارئ متفكراً فيما يقرأ.
قال الحسن البصري: (يا ابن آدم كيف يرق قلبك وإنما همتك آخر السورة! )
قال ابن مفلح - رحمه الله -: (أقل الترتيل ترك العجلة في القرآن عن الإبانة، وأكمله أن يرتل القراءة ويتوقف فيها)
والصحيح أن من أسرع في القراءة فقد اقتصر على مقصد واحد من مقاصد القراءة وهو: الثواب.
ومن رتل وتأمل فقد حقق المقاصد كلها وكمل انتفاعه بالقرآن واتبع هدي النبي صلوات ربي وسلامه عليه وصحابته الكرام - رضي الله عنهم -.
المفتاح العاشـ ـر / الجهر بالقراءة:
عن أبي هريرة قال: " ليس منّا من لم يتغن بالقرآن يجهر به "
وعنه أيضاً قال أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت أن يجهر بالقرآن )(12)
قال ابن عباس لرجل ذكر أنه يسرع القراءة (إن كنت فاعلاً فاقرأ قراءة تسمعها أذنك ويعيها قلبك)
وعن أبي ليلى قال: (إذا قرأت فاسمع أذنيك فإن قلبك عدل بين اللسان والأذن)
فإن الجهر بما يدور في القلب أعون على التركيز والانتباه ولذلك تجد الإنسان يلجأ إليه قسراً عندما تتعقد الأمور ويصعب التفكير.
ختاماً /
إن من يواظب على قراءة القرآن كما تم بيانه ووصفه من حال السلف فإن هذا سيؤدي إلى حياة قلبه وقوة ذاكرته وصحة نفسه وعلو همته وقوة إرادته، وهذه هي مرتكزات النجاح الحقيقية، ذلكم النجاح الشامل المتكامل الثابت في حال الشدة كما هو في حال الرخاء.
إن من يطبق هذه المفاتيح العشرة فسيرى بأم قلبه نور القرآن... ويكون ممن قال الله فيهم: إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكيا (13)
نسأل الله أن نكون من أهل القرآن وأن يجعله ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا وذهاب همومنا.
إنه القادر على ذلك ... لمن خلصت نيته.
والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
-------------------
الهوامش:
1- بتصرف شديــد
2- الإسراء 107-109
3- الحج 46
4- الأنفال 24
5- من كلامي.. للاستزاده الرجوع للكتاب.
6- الإسراء 79
7- المزمل 1-5
8- صحيح مسلم
9- الإسراء 79
10-المزمل 6
11-سنن الترمذي
12-صحيح البخاري ومسلم
13-مريم 58
**--نجمة الونشريس--**- Admin
- عدد المساهمات : 717
تاريخ التسجيل : 13/06/2010
الموقع : https://nivine2012.yoo7.com/
مواضيع مماثلة
» مفاتيح تدبر القرآن والنجاح في الحياة ( 1 )
» علمتني الحياة...
» هكذا علمتني الحياة *****
» هل تنتهي الحياة عندما نخطىء ؟؟؟
» وقفة مع القرآن الكريم
» علمتني الحياة...
» هكذا علمتني الحياة *****
» هل تنتهي الحياة عندما نخطىء ؟؟؟
» وقفة مع القرآن الكريم
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى